يوسف.. أخوة وأم والأب في الغياب !

شمسٌ تؤمن طريقها نحو الغروب، بثقةٍ بالغة تمدُ خيوطها فوق مخيم تل السلطان، في رفح، القلعة الجنوبية.. فرحٌ هنا، قلقٌ هناك.. حزنٌ هنا، آمالٌ هناك.. وأطفالٌ يلعبون، يركضون، يريدون أن يسجلوا أهدافًا في مرمى عينت بحجرين في عرض الشارع الرملي..

أين منزل الشهيد عبد السلام؟، من هذا الشارع ادخلي من هنا، بنعرف ابنه يوسف، نناديلك عليه؟.. لا، شكرًا !

يوسف، يا هذا الابن الفخور بما ورث من حزنٍ، تبسم قليلاً علّي أثق أن الحياة ما زالت حيةً في قلبك منذ غادر أباك، فاتخذت له عذرًا أنه ذاهب إلى الجنة، تبسم قليلاً حتى تعين أمك على حملها في زمنٍ ثقيل، ثقل المسئوليات في قلبيكما !

“لا عجب، أني لا أستطيع افتعال ابتسامةٍ، لو كان والدي موجودًا لصارت ضحكةً وضحكات، لقد تزوج والداي في منزلهما الصغير في المخيم، أرادا أن يبنيا مستقبلاً لهما ولنا أنا وأخي وأختي، لكن رصاصتين تسللتا إلى خاصرته اغتالتاه واغتالتا أحلامنا”.

“كان الحصار مخيما على المخيم في مطلع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وظل كذلك طوال ثلاثة أيام، أراد والدي بعدهما أن يطمئن على جدتي في البيت المجاور، أراد أن يتأكد أن لديها ما يكفي من طعام وشراب، وخرج من البيت مصرًا على ذلك”.

” كانت قوات الاحتلال اعتلت أسطح المنازل المجاورة، وحين رأته في الشارع استهدفته، فسقط على الأرض، غارقًا في دماه.. والدتي كانت تراقبه من باب البيت، وحين سقط، ركضت نحوه تصرخ وتستغيث، سحبته إلى المنزل، رأيناه، وبكينا، صرخت قلوبنا: أنقذ يا الله أبانا”.

“مشهدٌ لا يغادر الذاكرة، وجعٌ يمتد فيها بطولها وعرضها، الإسعاف لم تتمكن من المجيء باكرًا، نزف والدي كثيرا، ثم استشهد، فلم يبق لنا إلا دماه عالقةً على ملابسنا، وعلى جدران المنزل”.

” في أوج شبابها، أدركت أمي أن الحمل ثقيل، تغيرت ملامحها، صارت زوجة الشهيد، لا همسة لا ضحكة، لا طلعة ولا نزلة، كله بحساب فهنا المخيم، كل شيء عالمكشوف، أنا.. صرت الابن الأكبر، أجدر من عليه أن يشاركها المسئولية، كان عمري ثمان سنوات، غياب والدي خطف الطفولة من قلبي وإدراكي، ربما مارستها في لعبي، لكن نظرة الفقد في عيني أخوتي، وكلمات أمي لي عن أحلام أبي وثقتها بي وبقدرتي على تحمل المسئولية غيرتني كثيرًا”.

” المساعدات تأتي بين الفينة والأخرى وإن كانت لا تكفي، الأقارب والجيران لم يقصروا، ونظرة الفخر في عيونهم لأنا أبناء الشهيد، ما غادرتنا يومًا، خاصةً أن أمي رهنت عمرها لنا، ولم تفكر في الزواج متعاليةً على كل احتياجاتها”.

“اليوم، أصر بكل ما أوتيت من إرادة على تحقيق أحلام أبي في أن يرانا ناجحين، وأدعو الله أن يجزي أمي خيرًا على صبرها، على قسوة الغياب”.